أما ما كان من أمر {سعاد} الشاعرة الساحرة الماكرة، فإنها لما أشعلت الفتنة بين القوم وصار لها عند {بني مرة} ذلك القبول، وجميع كلامها عند جساس مقبول، أخذت طاسة من الفضة وملأتها من المسك والعطر وخفقتها مع بعضها البعض، وعمدت إلى ناقتها {الجربانة}، وأخذت تطلي أجنابها وتدهنها بذلك الطيب، وأمرت أحد العبيد أن يأخذها إلى المرعى، ويمر بها قرب صيوان {جساس} في الصباح والمساء، وأوصته إذا سأله أحد عنها وعن سبب رائحتها يقول: {لا أعلم... إنما مولاتي تعلم}.
نخوة الجاهلية
أخذ العبد الناقة، ومرّ على ذلك المكان فعبقت رائحة الطيب، فاستنشق {جساس} الرائحة، وكانت زكية، فتعجب وسأل العبد، فقال: {إنها من الناقة ولا أعلم السبب يا مولاي، إنما مولاتي الشاعرة سعاد تعلم}، فاستدعى {جساس} العجوز وسألها عن الناقة، فتنهّدت من فؤاد موجوع، ثم قالت:
{لاأخفيك أن هذه الناقة من سلالة ناقة صالح، وفيها خواص غريبة، فإن بعرها من المسك وعرقها من الزباد}.
قال الراوي: ثم أعجب {الجساس} بالناقة، وطلب شراءها بما تطلب من الفضة والذهب، لكن الشاعرة الساحرة {سعاد} رفضت وبكت، وطلبت منه أن يوفر لها بستاناً لتأكل فيه الناقة، التي لا تأكل سوى من الزهور والرياحين، فاعتذر لها لأنه لا يملك كروما ولا بساتين، فقالت له:
ـ ولمن هي الكروم التي بجانب القبيلة؟.. من هو صاحبها؟.
فأجابها قائلاً:
ـ هي لابن عمي {كليب} زوج أختي الجليلة وأنا متزوج أخته {ضباع}.
وبدأت الساحرة إثارة غضب {الجساس} ضد ابن عمه {كليب}، وظلت معه إلى أن قال لها غاضباً:
ـ وذمة العرب وشهر رجب، لقد تكلمتِ بالصواب، وأنا من الآن وصاعداً لست أحسب له أدنى حساب، ولا بد لي من أن أطالبه أن يقاسمني أملاك المملكة، وإلا ألقيه في التهلكة، فروحي وأطلقي ناقتك لكي ترعى في أحسن البساتين والمرعى.
قال الراوي: وعلى الفور أمرت الشاعرة الساحرة، عبيدها أن يذهبوا إلى البستان، وكان روضاً كثير الأشجار والفواكه والثمار، وكان {كليب} قد اعتنى به، فلما أخذ العبيد الناقة دخلوا بعدما هدموا الحائط وصاروا يمزقون الزهور ويكسرون أغصان الشجر، فلما نظر الحارس تلك الفعال، هجم على العبيد، فشتموه، فذهب إلى {كليب} وأعلمه فاغتاظ غيظاً شديداً وجاء إلى المكان، ومعه أربعة غلمان، فوجدوا الناقة، فأمر بذبحها فذبحوها وطرحوها خارج البستان.
ثم أمرت {سعاد} العبد أن يسلخ الناقة ويأتيها بجلدها، فسار وسلخها وجاء بجلدها، فوضعت التراب على رأسها وشقت ثيابها وأخذت جلد الناقة وسارت به إلى الأمير {جساس} فدخلت عليه وقالت:
ـ لو كنت أعلم بأن ليس لك عند {ابن ربيعة} قدر ولا مقام، ما كنت تركت ناقتي في حماه، حتى يذبحها بل إني اعتمدت على كلامك لعلمي برفعة مقامك، وأنشدت تقول:
فإن كانت لكم ذمة وحرمة
فانهض يا أمير وشد حيلك
فخذ حقي من الباغي كليب
ورب العرب مولانا كفيلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق