الحارب بن عباد
هو شاعر وفارس جاهلي شهير، من فحول شعراء الطبقة الثانية، وأمير بني ضبيعة. كان الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة من بني بكر (توفي سنة 74 ق. هـ - 550ق. م) أحد سادات العرب وحكمائها، وشاعراً مقلاً ومجيداً، وفارساً لا يشق له غبار. اشتهر بالحكمة، والتوسط بين قومه بني بكر، وبين أبناء عمهم بني تغلب، وشهد مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس البكري عمرو بن مرة البكري، و اندلاع حرب البسوس بين تغلب وبكر، فاعزلها مع قبائل من بكر، لكنه سعى بين الطرفين المتصالحين بالصلح طوال فترة الحرب التي دامت أربعين عاماً.
رجُل اتَّسم بالفَهْم والحِلْم، والحكمة والشَّجاعة، شاعر قومِه ورائدها، كلّ تصرُّفاته الَّتي نُقِلت عنْه اتَّسمت بالحكمة، ولم تتَّسم بأيّ صفة من صفات التهوُّر والقصور، فهو حتَّى عندما قُتِل ابنه بجير كان ارتكاسُه ارتكاس العقلاء كما سنبيِّن، وحتَّى عندما نشبت الحرب بين تغلِب وبكْر، اعتزلها وقال قولةً مشهورة، بقيت مثلاً إلى الآن تتناقلُه الألسن: "لا ناقةَ لي فيها ولا جمل".
محاولات الصلح
تمت هذه المفاوضة بقيادة حكيم العرب الحارث بن عباد للاصلاح مابين الحييين حيث اجتمع فيها رؤس بكر و تغلب
الحدث التاريخي سنة 495 ميلاديآ
الحدث التاريخي سنة 495 ميلاديآ
أراد الحياد فما كان له ما أراد، وأُقحم في الحرب بين بني العمِّ إقحامًا، لم يكن اعتِزاله الحرب عن ضعف اتَّصف به، أو ذِلَّة اعترتْه، إنَّما رأى في الحياد السَّلامة، ثمَّ إنَّه استعظم قتْل كُليب من أجل ناقة، وهو صاحب السؤدد في عشيرته، والمكانة العالية في جماعته.
اعتزل الحارث بن عُبَاد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحرب، لكنّ المهلهل اعتزل النساء والغزل وحرَّم على نفسه القمار والخمر، ولَم يكُن يفكِّر إلاَّ بالثَّأر، وعنده لا أحد يعْدِل كليبًا.
قال القصائد العديدة في ذلك، وأراد لهذه النَّار أن تصِل بلظاها إلى كلِّ بيتٍ في بكر، الأمر عنده تجاوزَ الثَّأر لشخص بشخصٍ، لسيّد مقابل سيّد.
فهو الذي يقول:
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ حُلاَّمْ
حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ هَمَّامْ
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ
حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ مُرَّهْ
خرج ابن الحارث بن عُباد بُجيرٌ في نوق له يرعاها، أحكمت عليه أيْدي المهلهل الَّتي وزَّعها في كلّ ناحية وصوب تريد أن تأخُذ من بكْر أيَّة غِرَّة، اقتيد الفتى بُجير إلى المهلْهل الَّذي نسبه فانتسب، وقال: أنا بُجير بن الحارث بن عُباد.
انتسب الفتى وذكر أنَّ أباه اعتزل الحرْب بين تغلب وربيعة.
حضر الحوار امرؤُ القَيس بن أبان، فنصح المهلهل بعدم قتْل بجير، وذكر أنَّ أباه اعتزل الحرب.
عاد المهلهل إلى الفتى وسأله عن أمِّه، فأجاب: بجير.
قُدِّم الفتى بُجير ليُقْتَل بأمر المهلهل وبيده.
فقال امرؤ القيس بن أبان: واللهِ، ليُقْتَلنَّ بهذا الفتى رجلٌ لا يُسأل عن أمِّه.
فقتلَه وقال: بُؤْ بشِسْع نعل كُليب.
بلغ خبرُ قتل بجير الحارث بن عباد أباه، فماذا قال؟
- نِعْمَ القتيل بجيرٌ أصلح بدمه بين ابنَي وائل؛ يعني: تغلب وربيعة.
- لكن الأمر ليس كما تتصوَّر يا بن عُباد، أتعرف ماذا قال المهلْهل عند قتل ابنَك بُجيرًا؟
- لا.
- قال: بُؤْ بنعْل كليب.
- أوَقالها حقًّا؟
- نعم.
قام الرَّجل ووقف على رجلَيْه، وقال قصيدته المشْهورة، والَّتي منها هذه الأبْيات:
قل لأم الأغر تبكي بجيراً * حيل بين الرجال والأموال
ولعمري لأبكين بجبراً * ما أتى الماء من رؤوس الجبال
لهف نفسي على بحير إذا ما * جالت الخيل يوم حرب عضال
وتساقى الكماة سما نقيعاً * وبدا البيض من قباب الحجال
وسعت كل حرة الوجه تدعو * يالبكر غراء كالتمثال
يابجير الخيرات لا صلح حتى * نملأ البيد من رؤوس الرجال
وتقر العيون بعد بكاها *حين تسقي الدما صدور العوالي
أصبحت وائل تعج من الحر * ب عجيج الجمال بالأثقال
لم أكن من جناتها علم الله *وإني بحرها اليوم صال
قد تجنبت وائلاً كي يفيقوا * فأبت تغلب علي اعتزالي
واشابوا ذؤابي ببحير * قتلوه ظلماً بغير قتال
قتلوه بشسع نعل كليب * إن قتل الكريم بالشسع غال
يابني تغلب خذوا الحذر * إنا قد شربنا بكأس موت زلال
يابني تغلب قتلهم قتيلاً * ما سمعنا بمثله في الخوالي
قربا مربط النعامة مني * لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني* ليس قولي يراد لكن فعالي
قربا مربط النعامة مني* جد نوح النساء بالإعوال
قربا مربط النعامة مني * شاب رأسي وأنكرتني الفوالي
قربا مربط النعامة مني * للشرى والغدو والآصال
قربا مربط النعامة مني * طال ليلي على الليالي الطوال
قربا مربط النعامة مني * لاعتناق الأبطال بالأبطال
قربا مربط النعامة مني * واعدلا عن مقالة الجهال
قربا مربط النعامة مني * ليس قلبي عن القتال بسال
قربا مربط النعامة مني * كلما هب ريح ذيل الشمال
قربا مربط النعامة مني* لبجير مفكك الأغلال
قربا مربط النعامة مني * لكريم متوج بالجمال
قربا مربط النعامة مني * لا نبيع الرجال بيع النعال
قربا مربط النعامة مني * لبجير فداه عمي وخالي
قرباها لحي تغلب شوساً * لاعتناق الكماة يوم القتال
قرباها وقربا لأمتي در عاً * دلاصاً ترد حد النبال
قرباها بمزهفات حداد * لقراع الأبطال يوم النزال
رب جيش لقيته يمطر الموت* على هيكل خفيف الجلال
سائلوا كندة الكرام وبكرا * واسألوا مذحجاً وحي هلال
إذ أتونا بعسكر ذي زهاء * مكفهر الأذى شديد المصال
فقريناه حين رام قرانا* كل ماضي الذباب عضب الصقال
جاؤُوه بها فجزَّ ناصِيَتَها وقطَعَ ذنَبَها، وهُو أوَّل مَن فعل ذلك من العرب، فاتُّخذ سنَّةً عند الأخذ بالثَّأر.
وكان رد الزير سالم على هذه القصيده
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لِكُلَيْب الَّذِي أَشَابَ قَذَالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... وَاسْأَلاَنِي وَلاَ تُطِيلاَ سُؤَالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... سَوْفَ تَبْدُو لَنَا ذَوَاتُ الْحِجَالِ
قربا مربطَ المشهرِ مني ... إنَّ قولي مطابقٌ لفعالي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لِكُلَيْبٍ فَدَاهُ عَمِّي و َخَالي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لأِعْتِنَاقِ الكُمَاة ِ وَالأَبْطَالِ
قربا مربطَ المشهرِ مني ... سَوْفَ أُصْلِي نِيرَانَ آلِ بِلاَلِ
قربا مربطَ المشهرِ مني ... إنْ تَلاَقَتْ رِجَالُهُمْ وَ رِجَالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... طَالَ لَيْلِي وَأَقْصَرَتْ عُذَّالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لَبَكْرٍ وَأَيْنَ مِنْكُمْ وِصَالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لِنِضَالٍ إِذَا أَرَادُوا نِضَالِي
قربا مربطَ المشهرِ مني ... لقتيلٍ سفتهُ ريحُ الشمالِ
قربا مربطَ المشهرِ مني ... معَ رمحٍ مثقفٍ عسالِ
قربامربطَ المشهرِ مني ... قرباهُ وقربا سربالي
كانت القصيدة إعلانَ حرب بكلّ المواصفات ، ثمَّ كان يوم التَّحالق "يوم تحلاق اللِّمَم" وهو يوم من أيَّام العرب المشْهورة وكان لبكرٍ على تغْلِب، وكان الحارث بن عُباد أشار على بكرٍ قبْل القِتال أن يَحملوا نساءَهم معهُم، فإن رأَين جريحًا من بكْرٍ سقَينَه وضمدنه، وإن رأَين جريحًا من تغلب قتلنه.
- ولكن كيف تميّز النساء بين جرحانا وجرحاهم؟
أشار بحِكْمته عليْهم أن يَحلقوا رُؤوسَهم، فسمِّي اليوم بيوم تَحلاق اللِّمَم، أو يوم التَّحالق.
وقال قصيدة في هذا اليوم:
سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا
بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلاقِ اللِّمَمْ
نَزَعُ الجَاهِلَ فِي مَجْلِسِنَا
فَتَرَى المَجْلِسَ فِينَا كَالحَرَمْ
وَتَفَرَّعْنَا مِنِ ابْنَيْ وَائِلٍ
هَامَةَ المَجْدِ وَخُرْطُومَ الكَرَمْ
نُمْسِكُ الخَيْلَ عَلَى مَكْرُوهِهَا
حِينَ لا يُمْسِكُ إِلاَّ ذُو كَرَمْ
ثمَّ لَم يلبث إلا أن يظهر وفاء الرَّجل في هذه المعركة، إنَّها قصَّة نادِرة لوفاء نادِر، فقد
التقا بالزير فكسر ظهره، وكان نظر الحارث بن عباد قد شح، فلم يعرف أنه المهلهل، فسأله ذاك الأمان، وأعطاه إياه، ثم عرفه بنفسه.
فجزَّ الحارثُ بن عُباد ناصية الزير وأطلقه.
أيّ وفاء هذا الَّذي يجعل رجُلاً يقبض على عدوّ له ثمَّ يطلقُه، لا لشيءٍ؛ بل لأنَّه أعطى كلِمةً ما سمِعها حين نطقها غيرُه!
وقال في ذلك:
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى عَدِيٍّ وَلَمْ أَعْ
رِفْ عَدِيًّا إِذْ أَمْكَنَتْنِي اليَدَانِ
طُلَّ مَنْ طُلَّ فِي الحُرُوبِ وَلَمْ أُو
تِرْ بُجَيْرًا أَبَأْتُهُ ابْنَ أَبَانِ
فَارِسٌ يَضْرِبُ الكَتِيبَةَ بِالسَّيْ فِ وَتَسْمُو أَمَامَهُ العَيْنَانِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق